احتفال يلدا أو الشلة الكبرى
يَلدا، أطول ليلة في السنة، لطالما كانت تبشّر الإيرانيين بالاحتفال والفرح. ليلة يلدا هي إحدى أهم الاحتفالات الإيرانية التي كانت شائعة بين شعبنا منذ قديم الزمان. وقد تم تسجيل هذا التقليد في عام 1401 هـ.ش كتراث ثقافي غير مادي في اليونسكو. لكن لماذا هذه الليلة الطويلة تحظى بهذه القيمة في الثقافة الإيرانية وتعد من أكثر الاحتفالات الإيرانية انتشاراً؟
«يلدا» كلمة سريانية تعني الولادة والنشوء، أي ميلاد الشمس أو إله مهر. من جهة أخرى، تقول الأساطير القديمة إنه في هذه الليلة تتحد الشمس والقمر، وفي اليوم التالي تتأخر الشمس في الظهور عن موعدها المعتاد، لأن الليلة السابقة كانت ليلة زفافها.
رغم أن لفظة يلدا سريانية، فإنها ليلة إيرانية مفعمة بالمحبة:
معناها بالدارية: الولادة،
إعطاء الحياة لبعضها البعض.
(توران شهریاری)
أطول ليلة في السنة، أي آخر ليلة من الخريف، كانت تُسمى أيضًا «نَوَده»، أي تسعين يومًا قبل نوروز. احتفال يلدا يعود إلى حوالي 7000 سنة، وخلال هذه الساعات يُحتفل بزفاف القمر والشمس وليلة الحب على أمل يوم مشرق وظهور الشمس، حيث كان يتم تقسيم البطيخ رمزًا لدوران الشمس ولونها الأحمر.
فلسفة هذا الاحتفال تكمن في الميلاد والنشوء، الأمل، الفرح والازدهار. هذه الليلة تمثل الصداقة، التضامن، السلام، وولادة مهر، رمز الطهارة والدخول إلى العصور. الإيرانيون القدامى كانوا يحتفلون بميلاد الشمس حتى طلوع أول أشعة لها، ويجلسون على الأمل في الدعاء والانتظار لظهورها. اليوم التالي ليَلدا كان يُسمى يوم الشمس، وكان فيه القتال وقتل الحيوانات ممنوعًا.
في العصور القديمة، كان الناس يراقبون حركة الشمس والنجوم وتغير الأيام والفصول، وينظمون نشاطاتهم بناءً على ذلك، معتبرين هذه الظواهر تجليًا لوجود الله. وكانت الشمس دائمًا تمنح الدفء والضوء والحياة، وكانت موضع تقدير عظيم.
الإيرانيون القدماء، بتأملهم في الشمس ومهر، توصلوا إلى فهم الله كمصدر للنور الروحي، ومجّدوا مهر الإله، وسعوا لغرس هذه الصفات الإلهية في أنفسهم، مثل السلام، الصداقة، الحب، الوفاء والاعتدال.
لقد أدركوا أنه مع بداية الشتاء، تزداد أيام السنة تدريجيًا ويصبح الشمس أكثر إشراقًا، وكان الإيرانيون يسهرون على أمل انتصار مهر والشمس على الظلام. عند نهاية ليلة يلدا، يُهزم الظلام وتنتصر شمس النهار، فتزداد الأيام طولًا. في معتقدات أجدادنا، كان الضوء والشمس رمزًا للخير والطهارة والصدق، بينما الظلام والبرد رمزًا للشر والقبح.
الإيرانيون يسمّون الفترة من الأول من دی حتى العاشر من بهمن «چله بزرگ» (الأربعين الكبير)، ومن العاشر من بهمن حتى العشرين من اسفند «چله کوچک» (الأربعين الصغير)، لأن البرودة تخف في الأربعين الثانية. يُطلق على دی أيضًا اسم «خورماه»، ويقول أبو الريحان البيروني في «آثار الباقية» إن أول يوم فيه هو «يوم الفرح»، حيث يبدأ الضوء بالزيادة. في هذا اليوم، كان الملوك الإيرانيون يرتدون ملابس بيضاء ويخرجون إلى الصحراء للجلوس على الأرض البيضاء، ليتحدث معهم الناس، ويتشارك الكبار والملوك مع الفلاحين، مؤكدين أن استقرار العالم مرتبط بأعمال أيديهم. وكانوا يعتقدون أن شجرة السرو رمز القوة أمام البرد والظلام، وأن كل من كان لديه أمنية، يزرع سروًا حتى العام التالي.
انتقلت مراسم ليلة يلدا من الثقافة الإيرانية إلى بلدان أخرى أيضًا. كان المصريون يعتبرون ليلة الشلة ليلة ميلاد الشمس، ويحتفلون بعد اثني عشر يومًا من بداية الشتاء بانتصار النور على الظلام.
مهر، الذي يُسمّى أيضًا ميترا، يعني في اللغات السنسكريتية والأفستية العهد والتضامن والاتصال بين الأشخاص. وفي اللغة الفارسية يعني الحب، الصداقة، المصالحة والعهد. مهر رمز للعهد بين الإنسان والآخرين، والالتزام الاجتماعي والبيئي، والحفاظ على الأسرة والمدينة والبلاد. مهر يتوافق مع الصدق ويعارض الكذب، لأن الإنسان السيئ والكاذب لا يُتوقع منه الوفاء بالعهد.
اليوم، تُحتفل ليلة ميلاد الشمس في جميع أنحاء إيران وفي بيوت الإيرانيين بمحبة، حيث يجتمع الأقارب والأصدقاء ويستمرون في قراءة الشعر وأخذ فال حافظ حتى الصباح. على المائدة، توضع المكسرات والبطيخ والرمان، ويتبادلون الحب والدفء.
في هذا الاحتفال، يسهر الناس في انتظار الفجر ليحظوا بدفء مهر، وينقلون هذا الدفء الذي يأخذونه من الطبيعة للآخرين. احتفل يلدا بالحفاظ على ثقافة المحبة والصداقة والفرح، وينشر البهجة والمصالحة بين المضيفين والضيوف، ومن الجميل أن نتعرف على هذه الثقافة الغنية ونتأمل مفاهيمها الجميلة لنزرع صفات المحبة في نفوسنا.